استيقظت وكان كلّ شيء كما اعتدت عليه. أمي أعدت لي قهوة سفرية وأبي كان قد أجهز على ما تبقى من قهوة و غيرها في “البكرج”. أخذت أجمع قطع ومعدات الكاميرا التي سأقوم باستعمالها في تصوير آثار أم قيس وتأكدت بأن الأفلام الضوئية جاهزة وبأن البطارية أيضاً مستعدة للكم الهائل من الضوء هناك. فالكاميرا قديمة جدا ولم يعد أحد يستخدمها وكان علي أن أتأكد من جاهزية كل شيء قبل المضي في هذه الرحلة. وكالعادة، أمي انهالت علي بالدعاء والسلامة “تقبرني وطالع قمر ودير بالك” وإلى آخر ما تبقى في هذا الزمان من محبة الأم…
ركبت سيارتي ومازال كلّ شيء كعادته، عداد البنزين يضيء كل صباح لينذرني اني ما زلت غير ملتزم بتعبئته وكأنه يقول لي أنني لا أستحق أن أركب سيارة وبأنني أفضل لو أشتري دراجة هوائية، وكأنني لا أعلم هذا! على أي حال، سارت جميع الأمور كما خططت لها الطبيعة، فيروز في اذاعة الجامعة الأردنية ومئات من القتلة في اذاعة البي بي سي… وبما أن صوت فيروز أجمل من صوت اطلاق الرصاص، اخترت أن تكون شريكتي على الطريق.
رشفة من القهوة وسيجارة صباحية على رائحة البنزين الطازج وسعادة تغمر غرفة السيارة لعدم وجود أي ضوء أحمر في لوحة البيانات. كل شيء سار على ما يرام.. شارع الجامعة هو ذاته و “الشتائم” عندما يضيق الطريق لم تختلف و دوار صويلح يضج بالأزمة كعادته وشرطة السير تقوم بواجبها الانتحاري بأحسن وجه… ولم أشعر باختلاف في طريق البقعة، عمال على قارعة الطريق يؤشرون بأيديهم على أمل أن يجدوا من يحتاج طلاء منزل أو تحميل أثاث أو أي شيء يساعدهم على المضي بهذا اليوم… وبقيت الأمور على حالها حتى وصلت تقاطع شارع الأردن مع شارع البقعة…
فجأة ذهب تردد القنوات بعيداً وماعدت مسيطراً على صوت فيروز ولا حتى على صوت اطلاق الرصاص من البي بي سي وتذكرت أن التردد يتغير كلما صعدنا شمالاً أو نزلنا جنوباً… فذهبت أبحث عن شريك جديد لهذه الرحلة وللأمانة لم أجد إلا قنوات الاحتلال الصهيوني تملئ غرفة السيارة… فقبلت بقناة أردنية رسمية تتحدث عن موضوع طبي أبعد ما يكون شريك طريق و عن الأغاني العبرية… بدأت الأمور تخرج عن اعتيادها… وأصبح الجو يأخذ برودة وهدوء… وبدأت الاشارات الضوئية تبتعد عن مرأى العين و اختلفت أيضا اللوحات الارشادية حتى أصبحت جميعها تتحدث عن عرائس الشمال… فهذه لوحة تتحدث عن جرش وأخرى عن اربد وعجلون وقرى صغيرة حولهما… وأخر تقول لك أنك في الطريق الصحيح نحو الحدود السورية الأردنية التي أصبحت حدود اشباح… لكنني مازلت أبحث عن لوحة ارشاد اخرى… أم قيس.
إلى هذا الوقت لم يكن لي أي اتصال مباشر مع أحد على الطريق إلى أن قررت الوقوف عند نقطة أمنية قبل مفترق الطرق بين جرش واربد وعجلون… لكثرة البرد، لم أشأ أن أطلب من الشرطي الخروج من سيارة الدورية، فهميت بالنزول لكنني لم ألبث أن أفتح الباب حتى كان الشرطي على شباك السيارة المقابل برحب بي بحرارة لم أعتاد عليها في عمان… “السلام عليكم وصباح الوطن الجميل”… “أريد أن أعرف طريق أم قيس”… “صلي على النبي”… وتجمع عدة رجال من الشرطة للتناقش حول أفضل طريق إلى أم قيس… وكانت النتيجة أن أذهب “دغري”… وهو شيء غير اعتيادي على خارطة الطريق…!
في عملية بحث تلقائي على الراديو استطعت الوصول إلى البي بي سي، دقائق معدودة من رائحة الدم حتى حولت بسمعي إلى صوت الهواء و السكينة علّه يعيد لي بعضاً من التسامح على الطريق إلى أن وصلت لواء الحصن و صرت ابحث عن كشرة اعتيادية، صدقاً لم أتوقع أن أجد أحد يوزّع الابتسامات لكنني كنت مخطئاً، فالجميع ظهر بـأجمل حال حتى أنني سمعت نكتة في المخبز الذي اشتريت من عنده معجنات.. و لم أشعر أنني ابتعدت كثيراً عن صوت فيروز..فأكملت الطريق و استودعت لواء الحصن على أمل رؤيته عند العودة. دقائق معدودات وها هي إربد عروس الشمال تنظيم جيد نسبياُ .. تلوث بصري أقل من عمان .. وجوه مبتسمة على غير المعتاد و كل شيء مرة أخرى كان عادي.. بصراحة كنت قد بدأت أشعر بالملل من كثرة الأشياء الإعتيادية و بطبيعتي أكره الروتين.
لحظة .. هناك لوحة ارشادية جديدة! لونها بني و كأنها تقول لك ” اقرأني”.. أم قيس إلى اليمين..ثم إلى اليسار ثم إلى اليمين .. و أخذت أطارد هذه اللوحة الإرشادية أينما وجدتها في الشمال حتى أنني شعرت بالاستمتاع في كيفية الوصول إلى الهدف الغير متوقع .. جميل أنني لم أحتاج أن أطلب من أحد إرشادي إلى الطريق الصحيح. و بدأت الأمور تخرج عن عادتها، فأصبحت المنازل أصغر و الأطفال أجمل و أكثر اعتباطاً و حتى النساء اختلفن في كيفية عبور الطريق.. كل شيء صار أجمل حتى رائحة الهواء اختلفت .. بعض الكيلو مترات و مناظر خلابة على طرف الطريق.. إلى أن ظهرت لوحة جديدة أو أنها ليست جديدة لكنني كنت اتجاهل وجودها كونها من المناطق المحرمة على السوريين الوصول إليها.. أنت الآن في أم قيس .. و إذا أردت أن تكمل الطريق “مع الحواجب المرفوعة” فهاهي الحمّة السورية الأردنية في الأسفل .. وما كان عليَ إلى أن تجاهلت المحرمات و أخذت الطريق يساراً إلى مدخل مدينة أم قيس الأثرية .. وما أن ابتدأت الكلام بصباح الخير حتى اختلف كل شيئ.. “حياك الله…صباح الورد…”…”عفواً، الرجاء التوجه إلى البوابة الثانية لكي تستطيع اركان السيارة في مكانها المخصص”.. شكراً- مع ابتسامة ..
تأكدت من أن كل المعدات التصويرية في حوزتي، وتوجهت إلى البوابة الرئيسية عند شراء التذاكر.. و بدأ ينهال عليّ سيل من المرشدين السياحيين بعبارات ترحيبية إنجليزية حتى بدوت كأنني سائح أجنبي من العيار الثقيل حتى – يا حرام – اكتشفوا الحقيقة مع أول كلمة عربية نطقت بها… لكن هذا لم يثنيهم على الترحيب بي حتى أن أحدهم بدأ يشرح لي كيف وأين مرّ السيد المسيح وبأنه لا يبتغي غير المساعدة وأنني لست مضطر لدفع أي شيء اذا أردت أن يأخذني إلى ذلك المكان. واستمرت الترحيبات والمزاودة على مجيئي حتى وصلت نقطة الدخول… بلحظة اختفى جميع المرشدين ورأيتهم يتوجهون لسائح آخر علّه لا يتكلم العربية. بصراحة لم أشعر أنهم أرادوا انتهاز فرصة مجيئي، لا أعلم إن كنت على حق أم لا، لكنني شكرتهم وأنا مرتاح بابتعادهم عني الذي أتاح لي فرصة الاختيار فيما اذا أردت أحداً منهم يرشدني أم لا وهذا شيء لا نجده عادة في باقي الأماكن السياحية.
ذهبت إلى شباك التذاكر متوقعاً دفع مبلغ للدخول، وما أن أفصحت عن نيتي في التصوير وبأنني طالب في الجامعة الأردنية وأن هذا في هدف البحث الأكاديمي إلى أن اجتمع اثنان على ارشادي إلى أفضل الأماكن للتصوير، وأعطائي نصائح عن أماكن مهمة واطلالات شيقة وجميلة حتى أن أحدهم فرح كثيراً عندما علم بماهية الزيارة وطلب مني توثيقها جيداً بالصور والكلمات وتمنّو لي زيارة جميلة وممتعة بابتسامة عريضة تعطي الاطمئنان للزائر و كأنه في بيته. كل هذا كان بالمجّان وبدون أي مقابل…!
كانت خطوتي الأولى في الزيارة خجولة بعض الشيء لكن ما ان سرت بضعة أمتار حتى بدأت أشعر برياح الحضارة تصفعني وتشدني بعيداً عن الواقع المزدحم… بدأت أبصر وحدات زخرفية من بعيد تعود إلى آلاف السنين. صحيح أنها لم تكن المرّة الأولى لي في زيارة مواقع أثرية، لكنها كانت جديدة بعض الشيء فأنا لم أعتاد على رؤية صخور مزخرفة بجانب حشائش وأشجار جميلة، معظمهم مواقعنا التاريخية تحيى بصحراء مقفرّة… واذا ما رأينا تجمع لعناصر جمالية طبيعية فإننا سننتهي إلى معاقبلة المجتمع من كثرة النفايات وزجاجات المشروبات الملقية في كل مكان… لكن أم قيس كانت مختلفة، حاولت البحث عن منظر غير جميل أو منظر تلوثه النفايات ولم أجد وهذه نقطة تضاف لصالح القائمين على هذا الموقع الأثري الذي لم أعلم كيف مرّ الوقت وانتهىت الأفلام التصويرية بدون أن أدركه. مع أنني أذكر كل التفاصيل الرومانية والترميمات الحديثة وغير الحديثة في هذه الزيارة.
تأخذني الخطوات كما تريد هي والآثار وكأنني غير مشارك في هذه الزيارة، أتذكر كيف استوقفني اثنان من رجال الأمن العام بسؤال عن ما اذا كنت استمتع بالمناظر أم لا وبدأوا يسألوني عن ماهية الحملة التصويرية وكغيرهم، حاولوا أيضاً ارشادي إلى أماكن جميلة للتصوير حتى قادتني نصائحهم إلى متحف أم قيس الأثري. وما أن دخلت من بوابة المتحف، حتى أتى أحد القائمين هناك وبدأ بالتعرف على سبب مجيئي وكيف كان سعيداً على استقبال أبناء البلد، ومع أنني عرّفت بنفسي على أنني سوري الجنسية وأنني مقيم في البلد لأكثر من ثمانية عشر عاماً إلا أنه أصرّ أنني من أبناء هذا البلد وقد أسعدني هذا الإصرار. وللمفارقة انتابني شعور غريب كيف أنني أشعر أني سائح في بلدي و ابن بلد في غير بلدي…!
أخذني هذا الشاب إلى أكثر من ألفي عام من التاريخ وهو يشرح لي عن مدى ارتباط الحاضر بالماضي وعن مدى أهمية المنطقة وكأنه أراد أن يقول لي أنه مشتاق لانعاش السياحة الداخلية حتى أنه طلب مني أن أخرج عشرة دنانير ليريني أن الصورة المطبوعة على هذه الورقة المالية هي صورة احدى واجهات المتحف من الداخل وأضاف أن قلة من مجتمعنا يعلم هذا… لحظات وجاء المسؤول عن المتحف وتعرف علي وما أن علم بماهية الزيارة، صاح على عامل التنظيفات المسؤول وبدأ اعطاء الملاحظات له وكيف أنه وجب عليه تنظيف المتحف وترتيبه بشكل أكبر لأنه يتوقع دائماً مجيئ من سيقوم بتصوير هذا المتحف، مع أنني لم أجد ولا حتى ورقة صغيرة أو قطعة نفايات مرمية في الداخل أو في الخارج. ولم يستطع هذا المسؤول مغادرتي إلا وقد أعطاني لمحة تاريخية عن مدى عراقة هذه الآثار وعلاقتها بالمنطقة بشكل علمي ومرتّب وممنهج…
وبعد أن اتممت مهمتي في المتحف، ذهبت إلى مطعم في داخل الموقع وطلبت فنجان قهوة سوداء ثقيلة علّها يوقظني من سكرة الآثار… لكن للأسف.. أو ليس للأسف.. لم يستطع فنجان القهوة هذا أحداث أي تغيير بسبب ضخامة هذه الجرعة من التاريخ التي ارضعتني اياها أم قيس وكأنني… ابنها قيس…
من لا يعرف موقع آثار أم قيس، لا يعرف الكثير عن بني كنانة وعن هضبة الجولان المحتلة وتاريخ نهر اليرموك الذي يفصل بينهما. فعند الوقوف على إحدى المرتفعات في أم قيس تدمع العين عند رؤية هذا الجمال المحرّم في الضفة الثانية. فمن الغرب تجد بحيرة طبرية تمتد كحورية تلتف حولها الطبيعة الخضراء من كل مكان ونهر الأردن –الذي لا تستطيع رؤيته- يقول لك أنني هنا في انتظارك وريثما تأتي سأبقى على وعدي في الخروج من البحيرة كل صباح لألتقي والبحر الميت عند المساء علّني أراك عن قريب…
فبالرغم من كل الحضارات التي تتابعت على هذه المنطقة منذ أكثر من ألفين وستمائة سنة من يونان وبيزنطيين ورومان وفرس ومسلمين، لا زالت أم قيس تحتفظ بذكرى كل من زارها ومن كتب عنها أمثال مينيبوس شاعر الهجاء وثيودوروس الخطيب الفصيح وميلاغروس الشاعر الساخر. واذا أردت أن تعرف أم قيس أكثر فما عليك إلا أن تزور المسرح الجنوبي والكنيسة البيزنطية العريقة والتأمل قليلاً في المدرج الشرقي ذي الأحجار السوداء المحافظة على وجودها رغم كل العوامل الجوية… تستطيع أيضاً أن تضيف لزيارتك اختبار السير في الأسواق والمخازن القديمة ومجمع الحمامات الرومانية وكنيسة البازيليكا والدكاكين المقنطرة وشارع الأعمدة الرومانية الطويل… كل هذا ومازلت تتبع قدميك بلا تحفظ وتدع التاريخ يسوق بمخيلتك بعيداً عن شوائب القرن الحادي والعشرين…
ولا يسعني إلا أن أكرر العبارة المنقوشة على حجر الشاهد الذي كان منصوباً على قبر الشاعر الكبير “أرابيوس” يخاطب فيه الضيوف قائلاً “أيها المار من هنا، كما أنت الآن، كنت أنا، وكما أنا الآن، ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فانٍ”…
لرؤية الصور الفوتوغرافية الرجاء زيارة الرابط في الأسفل:
http://www.facebook.com/media/set/?set=a.10150547095915638.425912.503840637&type=1&l=33c937081e