عفوك سيدي… أهلاً و سهلاً
مضى كثير و لم أدوّن لك مذكراتي
مضى كثير و لم أبعث لك رسالة
مضى كثير و لم نقرأ لك يومياتنا…
و كيف أفاقت أمي في الصباح
و كيف أعدت القهوة
و كيف أيقظت أبي
و شربوا القهوة
و حرقوا السجائر الرخيصة
و كيف ضحكت أمي
عندما ضحك أبي
و كيف استيقظت أختي
على ضحك أمي و أبي
و تناولت وجبة الإفطار
و شربت الشاي
و لبست و انتعلت حذائها القديم
و كيف استودعتها أمي
و ركبت الحافلة العامة
و ضحكت مع صديقاتها
و كيف بكت في حصة التاريخ
و كيف و كيف و كيف
مضى كثير و لم نقرأ انجيلك
و كيف آمن أبي
و استنكر كل المذاهب الفلسفية
و أدار الرائي على محطات شرقية
و أخذ يضحك من كثرة الأخبار
و المحطات الإخبارية
وكيف ذهبت أمي إلى المطبخ
و أعدت الإفطار للجميع
و بكت على ماض
و بكت على حاضرو قرأت بعضاًمن حقوقها
و كيف أفقت أنا
و أعدت لي القهوة
و تذمرت و استنكرت
كل الصحف و المجلات
مضى كثير ولم نمجدك
هل تبذكر… أم أذكرك
كيف سكبت القهوة على الفراش
و كيف صرخت أمي باكيةً
من كثرة العمل و جلي الصحون
و عندما تأتي الظهيرة…
و تعود أختي بنفس الحافلة الفقيرة
تحدثنا عن فلسطين
و عن استشهاد مئةً من العامة
و قتل الكثير من المجرمين
و عن صديقتها المصابة بالسرطان
و أخرى تبكي على وفاة أبيها
نبكي لبرهة و نضحك بقية الظهيرة
الطعام جاهز صاحت أمي
و تستنفر العائلة…
واحد بجلب الصحون…
و أخرى بكسر أحد الصحون…
و تعم الفوضى لدقائق…
حتى نمسك بأيدي بعضنا البعض…
و نصلي…
أبانا الذي في السموات…
ليتقدس اسمك… و ليأتي ملكوتك
لتكن مشيئتك … آمين
و يمضي دقائق قليلة…
حتى تفرغ الصحون…
و يتذمر البعض من نفاذ الخبز
و انتهاء فترة الطعام
و نعود و نضحك سويةً…
من وفرة النقود في جيوب الأصدقاء
ومن شحها في صندوقنا المخفي
فلسطين…
كلمة عابرة تأتي من الجذور
أختي الصغيرة أباحت بها…
و قالت أن قصيدة تتحدث عن فلسطين
و تسأل أبي…
أحقاً فلسطين عربية…
يدمع أبي… و يبكي
على سبع و عشرين عاماً من الإنسانية
و تحدثنا عن فلسطين… و يقول
أنا فلسطين…
أمي فلسطين…
أختي و أخي و أبي فلسطين…
و يصمت قليلاً…
و يطلب من أمي بعضاً من الخمر
ترفض أمي…
و تذكره بفيض من الأمراض
يتوتر أبي… و يصر على الخمرة…
و في نهاية الجدال…
كلنا نشرب الخمرة…
و نعود فلسطين…
أبنائي الأعزاء…
كانت فلسطين…
اليوم فلسطين…
و غداً فلسطين…
سيدي…
حان وقت قيلولة الظهيرة
كلّ يتوجه إلى سريرته
و الكل مجتمع في الغرفة ذاتها
ليس حباً في الغرفة ذاتها
بل لعدم وجود غرفةً أخرى
شخير أبي يوقظ أمي
و تعود أمي إلى المطبخ…
تبحث عن عمل تقتل وقتها
و أختي الصغيرة مانفكت تفكر بفلسطين …
أحقاً فلسطين عربية …
هدوء و شخير … هدوء وشخير ..
أفكر قليلاً و أقول …
هل أنت نائم أبي …
اسمع شخير يقول …
تكلم … وقل ماذا تريد …
أريد أن أحدثك عن ماضيك …
فيعود الشخير …
وتعود أختي الصغيرة تفكر …
وأمي تعمل في المطبخ …
وتنقضي ساعة الظهيرة ..
لم ينم أبي يفكر بماضيه ..
لم تنم أختي تفكر بفلسطين …
و لم أنم أنا … اسمع الشخير ..
ساعة أخرى تنقضي …
و تأتي أمي بالقهوة الساخنة …
ويكتشف أبي أنها ليست طازجة …
وتعم الفوضى لدقائق …
حتى يقتنع أبي أن القهوة طازجة …
و يبدأ يحدثنا عن الإحتلال في الجولان …
و عن موت آلاف من الأطفال
تحت مجزرات الإحتلال
لكننا لا نكترث كثيراً …
و تعود أختي مصممة على فلسطين
ما الفرق بين الجولان وفلسطين ..؟؟؟…
يغلق أبي النقاش …
و يأمر الجميع بالعودة للكتب المدرسية …
و بقراءة التاريخ ..
و الأساطير و الخرافات …
ليجلس و أمي يحسبون الديون …
عشرون ديناراً ماء و كهرباء
خمسون ديناراً بقالة و غذاء
و الجمعية القديمة
زيت بخمسة عشر دينار
آجار بيت بسبعين دينار
و طارق …
و خالد …و دكان الخضار …
لا يكتمل الحديث من كثرة الديون
و قلة الدخل اللعين …
لكن … الحمدالله …
الساعة السابعة …
و أبي و امي في المطبخ
و أم كلثوم في المذياع ..
“ما تصبرنيش … ما خلاص ..”
و دفعة أخرى من القهوة الساخنة
جدال عنيف عن جودتها
وعن نسبة الأسود إلى الأشقر …
و تعود أم كلثوم تسيطر على الآذان
و يفكر أبي من جديد …
هل حقاً فلسطين عربية …
حان وقت الزوّار …
يطرق الباب .. و ها هي أم خلدون
و سبعة من أطفالها ..
” حماتي تحبني “
القهوة مازالت ساخنة
وتنهار الاسئلة ذاتها ..
” كيف الشباب وكيف الصبايا ؟ “
و كيف نفذ الخبز عند الغذاء ؟؟؟
طلقها زوجها …
ومنيرة اشترت ثوباً جديداً …
يقولون أنه من البا لة …
لا يكترث أبي … و ينقض عليها بالأهانة …
تبكي أم خلدون من شدة الكلمات
و قساوة الدهر … وقلة الخبرة و الثقافة …
حتى يصمت أبي … و يصمت الجميع …
و تتابع أم كلثوم .. ” أنا فاض بيّ ومليت “
نقاش عنيف من الغرفة المجاورة
عن القيم و المبادئ …
و عن عشر سنين من العناء …
أختي ستنكر الكتب المدرسية
و المنهاج المدرسي
و تلفت انتباهي لصورة غبية …
تحدث عن المحبة … و الصداقة الغريبة …
و عن كيفية الزواج
وتتسائل …
“لماذا فلسطين عربية .؟؟؟.”
يرن جرس الهاتف النقال …
صديقي يناديني …
“هيا بنا نصنع معجزة “…
لكن لا أكترث …
فلا معجزات من الاصدقاء …
سيدي …
تعودت أن أكتب لك قصيدة كل صباح …
لكني تقاعست اليوم …
فعذراً …
و إن كانت غبية …
يعود أبي لغرفة الجلوس …
فيلم وثائقي عن الشيوعية …
يبصق على التلفاز …
و تحوّل نظره لقناة إخبارية
استشهاد سيدة في عملية انتحارية
تفجير حافلة يهودية
و مقتل ابنها الوحيد
مئة من الجرحى
و مئة من المصوريين …
حركة نشاط تحتضن الحادثة ..
لكنه ام يقتنع بقتل النفس
او معنى الشهادة …
فيحول نظره مرة أخرى
لقناة أفلام …
عيارات نارية
و بندقية بألف رصاصة
ممثل لا يموت
و آخر يخنقها …
و يشاء القدر بأن تنطفئ الأضواء …
تستنفر العائلة
و تنهال الشتائم على شركة الكهرباء …
مسكينة أمي …
فقد أجلت غسيل الفناجين للمساء …
عام يمضي …
و أمي مازالت تنتظرالسماء كي تبكي …
زهور و أقاحي
عوسج و زيوان …
الفناجين كما هي …
عبقة برائحة البن الرخيص …
أم كلثوم لم تمت …
و المسلسلات التاريخية ذاتها … لم تمت …
لكننا كبرنا …
و هرمت أحلامنا …
أختي الصغيرة غضدت النظر عن فلسطين
و إن كانت عربية …
هل أكترث ..؟.. هل نكترث ..؟..
اختلفت الشعارات … و المبادئ …
و الليل ما عاد ينجلي …
السماء لم تمطر …
أبي لم يعد يشخرعند المساء …
دمىً غبية تحكم أمالنا …
القدر قد زار منزلنا …
لكننا كنا زمازلنا
نفيق كل صباح
على ضحك أمي و أبي …
و على صوت فيروز في المذياع …