Skip to main content
Writings

التجريدية بكل واقعية

By October 12, 2011April 5th, 2017No Comments

في عملية طرح بدائي واجهت أحد طلاب الفن على المستوى الجامعي، قام هذا الطالب بابداء وجهة نظر مبنية على قيم غير فنية في معرفة ماهية اللوحة التشكيلية. وبالأخص فنون الحداثة وما بعدها. فما كان على هذ الطالب إلا أن يقوم بطرح سؤال فجائي لأحد الأساتذة الأجلاء حين قال له: كيف لنا أن نعرف أن هذه اللوحة هي عمل فني تجريدي أم إلى أي مدرسة تنتمي هذه اللوحة أو العمل الفني؟

أجابه الأستاذ وهو ناقد فني وله باع طويل في المعرفة الفنية وتاريخ الفن على وجه العموم: الفن هو كل شيء تريد أنت أن تسميه فناً ولكي تستطيع أن تقيم عملاً فنياً، ما عليك إلى أن تتجرأ وتفتح نافذة الحمام التي تطل على المنوروتنظر من خلالها إلى نافذة الحمام المقابلة لنافذتك وتبدأ بالانتظار حتى تدخل امرأة جاركم غرفة الحمام المقابلة وتضيء النور.. وتبدأ في الاستحمام.

فتلك الصورة التي ترتسم على زجاجة النافذة ذات الملمس المتكسر الذي يعمل على تفكيك التفاصيل المواقعية لها هي العمل التجريدي. فالتجريد هو تكسير وتفكيك لكل ما يحيط بك من واقعواعادة صياغته برؤية خاصة بك أنت وليس بالضرورة أن تخص أحداً غيرك. فعندما تبدأ هذه الصورة بالتكسر من أمامك فأنت جزء من هذا التكسير والتفكيك الواقعي للعمل. فأنت وحدك منا يتفاعل مع هذا العمل وحركته وألونه والخيال المترتب على أحداث تواصل بينك وبين النافذة المقابلة. فلا أحد غيرك يتواجد أمام هذ العمل وأنت وحدك المسؤول عن ما يترتب عليه من واقعية جمالية كا عرّفها وأسّسها الشاعر والناقد الأمريكي ايلي سيجيل مؤكداً أن الجمال كله يتمثل في حدة الأضواء وهذه الوحدة هو ما نسعى إليه جميعاً. وأيضاً هناك تنشئ واقعيات أخرى عندك كمتلقي ومقيم أو متذوق لهذا العمل وقد تكون واقعية بناءة بدلاً من تفكيك العناصر الجمالية للعمل نفسه أو قد تكوّن واقعية حرجة، مباشرة، معرفية وقد تذهب أبعد من هذا لتكون افراط في الواقعية ومهما ذهبت في واقعية العمل فإن تصويرك لنا يتعدّى كونها امرأة تستحم اذ ما أصنعت او انتشلت أجزاء من هذا العمل. فالواقعية هنا هي تصوير موضوعي لما تراه.

لكن اذا ما ذهبت إلى أبعد مما تراه عيناك من واقعية بأي نوع كانت من الأنواع، فإنك ستبحر في عالم لا متناه من المدارس الفنية. وليس مجرد نافذة واطار وزجاج وجسد يتحرك تحت المياه التي لا تراها إلا بحاراً وتسمع صوتها الغير المتناسق. فقد يأتي أحد غيرك ويقيم الموضوع بطريقة تختلف كلياً عن الطريقة التي قيمته أنت فيها. قد يرى هذا الشخص ولنفرض أنه فني في سن المراهقة أن الموضوع أبعد من صورة غير واضحة وأصوات غير متناسقة.

بشكل عام، اللوحة التي نراها من نافذة الحمام ما هي إلا تشكيل لغوي تم بناءه بالاعتماد على المعطيات المتوفرة في جانبين الموقف. الإمرأة التي تستحم وما يحيط بها من عناصر اللون والشكل والحركة المستمرة والبخار المتصاعد ودخول عناصر أخرى إلى هذا اعمل كدخول زوجها ليقوم بمساعدتها وإلى آخر التفاصيل التي قد تنتج في فترة الاستحمام.

ومن الجانب الآخر، هو المتلقي الذي يقف في المقابل لهذا العمل وماهية ادراكه للموقف الذي أيضاً يعتمد على واقعة الاجتماعي والثقافي والفكري وعلى وضعية الوقوف خلسةً والخوف من السقوط وكمية الاضاءة المتوفرة وإلى آخر المعطيات الفردية من جوانب انمائية دينية وعقائدية وحتى فسيولوجية أو جنسية.

هذه المدخلات هي التي تنتج العمل الفني ومن ثم يتم وضع هذا العمل في بضعفه النتائجي من حيث اللوحة التي انطبقت عند المتلقي فقط. واذا فرضنا مجازياً وجود ناقد فني في المنتصف بين كلتا النافذتين، نجد أنه ستضاف معطيات على العمل الفني وهي نظرة الناقد المجردة من الايماءات الحسية. فالناقد قد يذهب لاعطاء طابع عفوي على العمل الذي قد يضيفه على أنه من الأعمال الفنية الغير قصدية، فالأسرة بدورها لم تقم بصناعة هذه اللوحة عن قصد وكل ما أرادت به هو أن تستحم. إلا أن العمل قد تم تحديده على أنه فني من قبل الشخص المتربص خلسة عن الجانب اآخر من (المنور). وهنا يكون الفنان و المتلقي هو الشخص ذاته.

اذا أمعنا النظر في هذا الحدث على أنه لوحة فنية، فإننا سندرك أن لغة التواصل بين المتلقي والعمل الفني هو أحادي الجانب اذا كان العمل غير قصدي وهنا يكمن دعم النظرية التي تقول على أن العمل لا يكتمل إلا بوجود متلقي لهذا العمل.


nedaa.elias[at]gmail.com