كثيراً ما يسعى الفنان لاكتساب ثقافة عملية تساعده في انجازه الفكري الذي يتمثل في اللوحة وهو عندما يقوم برسم أو تأليف لوحة ذات رسالة لونية أو شكلية أو خطية أو حتى ضمنية، فإن هذا الفنان سيقوم على استعمال اما مخزون الذاكرة الذي اكتسبه من حواسه البيولوجية عبر الزمن والذي بدوره (أي الاكتساب) يبنى على مجموعة من لغات التواصل الاحادية والتفاعلية الجانب بين المحيط الخارجي وبين الفنان نفسه.
و بناءً عليه فإن الفنان كان في بدء العمل الفني قد اعتمد على لغة تواصل كي يقوم ببناء هذه الذاكرة الحية كانت أم مخزونة و لولا هذه الذاكرة المكتسبة لما استطاع الفنان أن يقوم بغرض احاسيسه على قطعة القماش التي ترجم بها أحاسيسه لعمل فني. اذ إن هذا الفنان عمل على استخدام نمط من أنماط التواصل بينه وبين المحيط الخارجي كما شرحه ووضعه المحلل النفسي الأميركي هارولد لاسويل سنة 1948 والذي يقول أن النموذج السلوكي في التواصل يتضمن ما يلي: من هو؟! أي المرسِل و ماذا يقول؟ أي الرسالة و بأية وسيلة؟ أي القناة و لمن؟ أي المتلقي و من ثم التأثير…
وانطلاقاً من هذا النموذج وغيره من النماذج في لغة التواصل فإننا نستنتج أن أي عملية تواصل يجب أن ترتكز على عناصر التواصل من مرسل ورسالة وقناة ومتلقي وفي أغلب الأحيان يكون هناك التأثير الناتج عن عملية التواصل وأيضاً قد يكون هناك تأثير مرتد أي أن التأثير لا يقتصر على ردة فعل المتلقي بينه وبين نفسه فقط لا بل قد يتعدى التأثير الأحادي بأن يقدم المتلقي على عمل ردة فعل خارجية وقد تكون بأن يقوم المتلقي بشراء هذه اللوحة أو تفضيله لأحد بأن يتحدث عنها أو قد يكون تأثير سلبي في أن يقوم بنقد اللوحة وسلبياتها. في هذا النموذج من التواصل، تقوم عملية التواصل على ثنائية المثير والاستجابة (الانفعال) وبالتركيز على الوظيفة التأثيرية كما تم شرحه سابقاً. لكن هذا النظام لا تخلو من السلبيات التي تترتب عند عملية التواصل كأن يلجأ المرسل على تعميمات ودعايات غير واقعية في سبيل التأثير المباشر والغير مباشر على المتلقي وهذا أيضاً يعتمد على مدى قدرة المتلقي على الاقتناع بوسائل الدعاية التي يقوم بها المرسل.
بالعودة لطبيعة عمل الفنان ودوره في عملية الاتصال، فإننا سنجد أن الفنان لا يعمل بمنبئ عن الوسط المحيط به وهو جزء لا يتجزأ من هذا المحيط. اذ إنه كلما حاول الانعزال وأخذ منطلق فكري حيادي عن هذا المجتمع، فهو يلجأ لمجتمع افتراضي لكن عناصره واقعية وأكبر مثال على هذا الأيام الأخيرة التي قضاها الفنان الاسباني سفادور دالي عندما قام بتحويل الجنون إلى مدرسة قائمة بحد ذاتها وبغض النظر عن إذا كان سلفادور دالي قاصداً لهذا الجنون أون كان نتيجة طفولة فرويدية للأنا. فإن دالي كان على علم أن يستطيع أن ينال ما يريده عن طريق جنونه والذي بدوره كن نوعاً آخر من التواصل بين دالي والمجتمع الذي حوله. ويقوم غيبس كاتب ومؤرخ، “سلفادور دالي يقول” عندما كنت صغيراً أردت أن أصبح طباخاً، وعندما أصبح عمري ست سنوات، أردت أن أصبح نابوليون” وفي الثامنة من عمره كان يتبول في فراشه حتى يشتري له والده الدراجة الحمراء بثلاث عجلات وأحياناً كان يوهم أهله بأنه يسعل وبقوة مما كان يجعل والده يرتجف من شدة خوفه عليه. “سلفادور دالي الصغير كان يعرف مدى حب والديه له، وكن يستخدم هذا الدلال بأقبح الأشكال، كان يستطيع أن يتغوط في أي بقعة من المنزل لكي يستفز والديه أو كان يستطيع البكاء والصراخ في وسط الطريق والطريقة الوحيدة لتهدئته كانت بأن تلبى طلباته كاملة”.
تعلم دالي منذ الطفولة أن يصل إلى مبتغاه بطرق جنونية ففي عام 1910 يرسم دالي لوحته الأولى بخدش طاولة الطعام بالسكين ليرسم بجعة، ويؤكد دالي بأن جميع لوحاته كانت عبارة عن رؤى، وكان أحدهم يخدش هذه الرسومات في عقله. في هذا المثال الجنوني، لم ينحصر دالي في غرفة افتراضية يحيى هون بها وحده، بل كان لا بد عليه أن يلفت انتباه من حوله حتى يصل لمبتغاه وفي عملية اللفت هذه كانت تكتمل عناصر التواصل كافة. فالمرسل هنا هو سلفادور دالي والرسالة كانت تعظيم الأنا الغير مبررة للعموم في نفس دالي عن طريق خدوشت ولوحات سيريالية، أي قناة التواصل، كان الجنون وكانت أيضاً هذه القناة نفسها هي لغة التواصل التي أراد بها دالي أن يحدث تأثير في عين المتلقي.. لماذا؟ لأنه وبالرغم من جنونه وما كان ليستمر بجنونه إذا لم يجد أحد يعير هذا الجنون اهتماماً. ومن القصص المشهورة عن دالي في هذا السياق أنه كان يرمي بصحون الطعام على من يجلس بجانبه في المطعم فيتسابق الجلوس على أخذ توقيعه وهذا إذ دلّ فإنه يدل على أن الاستجابة للتأثير تعطي العمل الذي كان يقوم به دالي معايير أكثر من مجرد جنون.
فكلما زاذ دالي بجنونه في اللوحة والأعمال الفنية، زادت دائرته التواصلية وزاد معها من يريد الدخول إلى هذه الدائرة.
قد يقول بعضهم، إن هذا يدل على سذاجة المتلقي وما يفعله الناس عندما يتوقون للدخول لدائرة الجنون الخاصة بدالي ما هي إلا محاولة اتصال أحادية مع شهرة مجنونة وأعماله ليست بالضرورة أن تأخذ على محمل الفن إلا لأنه عاش بزمن أحب الناس جنون هذا الإنسان!
نعم هذا افتراض مهني وعالي الدقة في حال أخذنا أن هناك معايير أراد بها المحيط من دالي أن يقيسوه عليها. وإن كانت أعماله تنمّ على حالة نفسية عيقة لا أحد يريد حتى أن يسبر أغوارها ويكتفون بالملاحظات فهذه أيضاً رسالة تأملية وبالتأكيد تستطيع تأويل أي ظاهرة طالما أننا تعتمد على أحاسيس انسانية قد تخطئ وقد تصب.
دالي استطاع وهو خارج الواقع أن يتصل بعالم واقعي عبر جنونه الغير مبرر… وهنا اكتملت عناصر التواصل التامة بين المرسل والمتلقي وهذا ما أدى إلى نجاح الرسالة المرسلة من الفنان إلى العامة. إن نجاح هذه العملية التواصلية ما كان ليصبح حقيقة لولا أن دالي ذهب إلى لغة تواصل متعارف عليها آنذاك ولغة تواصل ساعدته على انتقائية الأشخاص الذين تبعوه. لغة الجنون والأحلام التي اتبعها دالي كانت بمثابة مخرج بصري لهؤلاء الذين رأوا أن الجنون ما هو إلا حالة غير فردية مسؤولة من المجتمع كافة ولا تقتصر على الفنان ذاته لا بل تذهب أبعد من هذا لتكون منظومةً هيروينيةً يتعاطاها من كان لها بحاجة كي تأخذه بعيداً عن ملوثات البصر في مطلع القرن العشرين.