في كل صباح تفيق عشتار على ضحك أطفالها ترتشف بعضاً من ألوان الربيع كوجبة صباحية و تذهب بها الكلمات إلى أكثر من خمسة آلاف سنة مضت تنتظر محبوبها .
هكذا أدخلنا محمود صادق في ملحمة تموز . فعندما يأتي الربيع و تنتشي به الأزهار، يدق بابه رحيق يوم ثقافي، فتعتليه الرغبة في أن يفتح بابه و تخرج بمخيلته لتضاجع عبق الألوان . فيجد نفسه في خضمّ ثورة خطيّة . خطوط تحدثه عن فلسطين و أخرى تحدثه عن المجاعة في الصومال، فيكمل مسيره طلباً في لون جديد … يسبر غوز الذاكرة الحيّة التي ما انفك يداعبها كل صباح .. حتى تأخذه خطواته عميقاً في بصيرته إلى بابل .
يضع بابل وملاخمها في كيس ورقيّ يحتوي على ألوان ورديّة وبعضاً من الفراشي العتيقة و يذهب مضياً إلى مرسمة الشاعري . يقرأ بعضاً من تراث تموز .. من تراث بابل .. فتأخذه الكلمات إلى ملحمة جلجامش لترقص و أقلامه عشتار ..
لوحة زيتية ذو مساحة لونية كبيرة . تنتشر بها صراحة اللون و نعومة الملمس . خطوط ثابتة تحكمها معايير الأشخاص المتمثلة في اللوحة ذاتها، فتارة يأخذ الخط مسير الشارع اللوني و كأنه يضع عين القارئ في مسرب ذو مرجعين .
يجتاح اللوحة اللون الحار، فتارةً يضفي اللون البرتقالي على عين المتلقي و أخرى يمزجها بعبق الألوان الباستيلية ليظر تناقض الألوان و ليحدث مفارقات رمزية بين عنصر و أخر . و يتجلى هذا بالجرأة اللونية ككما في الثور الذي أخذ لوناً أخضر و كأنه أراد أن يرمز لشيء أو أنه أدخل هذا الثور في مرتقى لوني لينشئ مفارقة جريئة بينه وبين باقي عناصر اللوحة .
فأراد صادق هنا أن يلتزم بتعبيريته مع مراعاة وجوب الخروج عن النص في التمثيل الغيري للجسد كما فعل في جسد الامرأة الماثلة في يسار مقدمة اللوحة . فاستطاع بذلك أن يزج بين ما ترمقه العين من النظرة الاولى و بين موازنة عناصر اللوحة جميعها التي إذا لم تتزن شكلياً، أخذت الألوان الدور في موازنتها عاطفياً .
نستطيع أن نرى أيضاً مدى قدرة الفنان على إحداث بعد و عمق في اللوحة من المنتصف و هذا دليل على خروجه البسيط عن النص لكن بتصرّف . فهذا البعد لا يحدث ضجيجاً و لا يخلّ التوازن في اللوحة، لا بل يزيد من توازن العناصر و خصوصاً في الفجوة التي أحدثها في منتصف العمل .
أصر الفنان على تعبيرية الأشكال، فأخذ تارة كما في باقي أعماله العناصر الرئيسة محوراً تتمركز عليه ثقافة اللوحة . و تجلى هذا في العناصر الثلاثة الرئيسة ( الامرأة و النساء، ثم الرجل ثم الثور ) . وهذا ما تنطبق عليه ملحمة عشتار و انتظار لتموز . فالمرأة هي العنصر الرئيسي و النساء إلى جانبها و من ثم تموز التجريدي و من ثم الثور الذي يحمل طوقاً من الياسمين .
أما في النظر للحركة المتمثلة في كل عنصر في اللوحة فمن الجلي و الواضح إصراره على إحداث تناغم بين اللوحة كفكرة و العناصر كمضمون ، فنجد عشتار تقف وقفة العروس و تذهب في عمق اللوحة لنجد الراقصات تماماً كما في الرواية الملحمية ، و نجد أيضاًالمغنيات و المغنين و هذا كلّه يحدث الأثر الذي أراده الفنان و هو احتفال بعودة تموز .
يدخل عنوان اللوحة في سياق تاريخي و اسطوري ، فقد تعمد الفنان وضع العنوان في خلاصة اللوحة و التي هي عودة تموز . ففي ملحمة جلجامش الملحمة التاريخية التي تعد من أول الكتب التي كتبت في التاريخ و تعود لأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. ففي هذه الملحمة يتحدث البطل جلجامش عن عشتار في كثير من النصوص ، ومن النصوص المميزة عن عشتار في هذه الملحمة يتحدث جلجامش عن وقت أتت إليه عشتار تطلبه زوجاً و كانت قد ودّعت تموز ليذهب للعالم السفلي في النصف الثاني من حياته السنوية – أي سباته من العالم العلوي – فيرفض جلجامش البطل عرض عشتار رفضاً تاماً ، ويبرر هذا بنظرية العهر المقدس التي لطالما نادت به عشتار . فتغضب عشتار و تصر على أن يتزوجها و تستنكر رفضه فهي أم الوجود الأنسي و لا يحق لأحد أن يرفضها . فيعلق البطل جلجامش متهكماً : كيف أتزوجك و انت تنامين مع رجل آخر ستة أشهر في السنة و في الستة أشهر المتبقية تعاشرين نصف رجال الأرض؟ فأخذت عشتار تغضب أكثر فأكثر وراحت تنادي الآلهة الاعلى مرتبة منها و صعدت إلى السماء تطالب الآلهة أنو أن تجبر جلجامش على أن يتزوجها ، فترفض أنو أن تجبره و تصر عشتار مرة أخرى إلى ان تصل بها الأمور أن تطلب من الآلهة أنو مساعدة ثور الجنة . وهو ثور اسطوري ذكر في كثير من الحضارات و كان دوره أن يحقق القوة الكاسرة عندما يُطلب منه . فترفض الآلهة أنو أن تعطيه لعشتار ، فتذهب عشتار بتهديدها أنها إذا لم تعطها ثور الجنة ، ستوقظ كل موتى الأرض و تجعلهم يستهلكونها حتى يستنزفونها . ومن ثم لا يتبقى في الأرض شيء … حتى أخذت ثور الجنة و تنزل به للأرض لقتل البطل جلجامش انتقاماً لعشتار . فما يلبث ثور الجنة أن يبدأ القتال حتى يصرعه البطل جلجامش و صديقه و يمتثل صديق البطل جلجامش و هو يمسك بضلع الثور و يهم بأكله ، و يخاطب عشتار و يقول : لو أنني استطيع لمسك، صدقيني أن هذا ما كنت فاعل بك ..
لكن لماذا أراد الفنان ان يصوّر الواقعة في صورة فنية أجمل ظاهرياً و يضع عشتار في أجمل من تاريخها ، ولماذا أراد أن يجمل قبحها في قصة جلجامش ؟ لا بل تذهب أبعد من هذا و نتسائل عن سبب احضار الفنان لقصة عشتار في هذه اللوحة ..
في قراة بسيطة عن الفنان صادق ، نرى أنه متأثر جداً في حضارة مابين النهرين ، فمن المعروف عنه أنه حصل على درجة البكالوريس من بغداد عام 1970 و كان قد اشتف رخيق الحضارة من بلد كانت و مازالت واحدة من أفضل من نهل منها فنانوا الوطن العربي و ارتشفوا حضارتها في كل فنجان قهوة صباحي في بغداد ، فمن البديهي جداً أن يحضر لنا الفنان صادق ملحمة تاريخية في اطار بصري . وبالإضافة
إلى جميع ما ذكر ، معروف عن الفنان صادق أنه تبنى الأرض كلها موطناً لأعماله ، فلا يكترث لحدود صنعها إنسان ، ويصرّ على ان الأرض كلها قطعة فنية واحدة متعددة الأقاليم و له الحق في احضار أي اقليم منها في اطار لوحة فنية .
فعودة تموز و بعيداً عن الثقافة البابلية ، تعتبر ذو رموز غنية على مدى الحضارات جميعها . فقد أتى ذكر تموز في الحضارة الفينيقية في ( تموزيد ) و في الحضارة الأكادية و الآشورية في ( تموزين ) . وتعتبر تموز ذو دلالات شاعرية يُأتى به كلما أرادت حضارة إشهار قصة حب أزلية بين إلهين . وعشتار في بابل هي ذاتها عشتروت في الفينيقية و هي أفروديت في الحضارة الاغريقية و مثيلاتها كثر . و كناية عن الحب الأزلي الذي يكنه لها تموز ، تقوم عشتار في منتصف كلّ سنة بلبس ثوب العروس و تخضر الراقصات و المغنين والعازفين من حولها ليزفوها من جديد للإله تموز لتعاشره طيلة المئة وثمانين يوماً القادمة و احتفالاً بعهد جديد من الخصوبة و الحب .
فهنا أراد الفنان صادق أن يحدث ارتجاجاً عاطفياً في عين المتلقي كناية عن بداية متجددة و عرس متجدد و حب و شعب متجدد . و هذا ما تستحضره ذاكرتنا دائماً على مضض . فجميعنا نحلم في حب يتجدد كل صباح و كل مساء كي تستمر الحياة و تنبض لتخلق أمل في الغد .
يجوب اللوحة تناغماً ملحمياً .. فعند النظر في اللوحة بتمعن ، يدخل المتذوق في منظومة ثقافية و بعد لوني . فالعناصر تتناثر بانتظام و هذا ما أبدع به الفنان صادق على مضض، فالمراة (عشتار) تقف بالتواء أنثوي كناية على تمييزها عن بقية الفتيات في اللوحة و تلبس ثوبا ينحنيً والمعاني و كأنه ثوب عرس يملئ نصف اللوحة تقريباً و تخمل بيدها مزهرية ورد كناية على باقة الورود التي تحملها العروس يوم عرسها . و أيضاً استطاع الفنان تمييز عشتار بلون الثوب الأبيض الوردي و تطعيمه بطرحة برتقالية لإحداث توازن لوني بينها وبين بقية عناصر اللوحة من الفتيات . فبالنظر إلى عمق اللوحة نجد فتيات يرقصن لكن أشكالهن لم تكن بالإتقان ذاته عند عشتار و يعتبر هذا قدرة امتهان الفنان على إحداث مقارنة في اهتمام المتذوق في عناصر اللوحة .
و نجد أيضاً كيف استطاع الفنان التعبير عن الموسيقى في اللوحة ، فقد أضفى على العازفين ألوان فرحة و حارة ، لا بل أخذ في هذا أن يلوّن أيضاً الآلات الموسيقية كالكمان ، وبذلك أحدث الفنان موازنة موسيقية و لونية في آن واحد .
و بالنظر للثور ، نجد لوحة أخرى داخل اللوحة ، فثور الجنة لوّنه الفنان بالأخضر و هو أبعد ما يكون عليه لون الثور ، لكنه عمد على وضع تفارقات بين الثور و ما يحمل بيده ، فطوق الياسمين ذو اللونين الأبيض و الأصفر يعتبر ظاهرياً خقيقياً ، لكن الثور و لاعتباراته الخرافية فهو شخصية خرافية و إحداث تغيرات عليه ، كاللون الأخضر ، تصر على اعطائه معايير خرافية ، وكأنه حقل أخضر نبتت فيه ورود الياسمين كناية عن التجدد و عن مصالحة الطبيعة للجنس البشري احتفاءاً بالتجدد و الخير والمحبة .
عودة تموز …. هل حقاً عاد تموز في هذه اللوحة .. أم أن تموز هو كل لون أباح به الفنان صادق لعين المتلقي ؟ فجميعنا ننتظر تموز أن يأتي .. كل صباح .. عله يأتي .
ها هي ألوان صادق تنتشي من جديد .. تارة تتكلم الفارسية و تارة تعبث بكم من المسمارية ، و من صلب التاريخ يضيء شمعة تتجلى في لوحة ترسمكِ عروساً تنتظر حبيبها تموز … هل أباح لك التفكير … ؟
عشتار …
عشتار ها أنت …
ترقصين بين المعابد …
فاليوم عرسك على تموز
هل حقاً تنتظرين تموز ؟
ماذا أرى !
تماثيل و أعمدة .. رجال ونساء ..
رقص وأغاني .. ثور و ورود ..
و بينهم انت الأبيض تلبسين …
ثكلى العينين .. مبعثرة ..
مزوشية التفكير ..
تعابير هائمة و متوحشة ..
تصرخ الآهات ..
هل أنت تموز .. أم أنتظر ؟
تقرأين في جسد اللوحة التاريخ …
لغات وقبائل .. طقوس وملاحم …
هل أباحت لك التفكير ؟
هل أباحت لك التمرد ؟
فثقافتك بالحب سادية ..
مائة وثمانون يوماً في فراش تموز …
و مثلها في منظومة العهر المقدس …
و مازالت عذريتك الأزلية تبكي …
من طهر جلجامش …
الذي ماانفك يتسائل دموعاً …
لماذا اقحمته في عذريتك المزيفة ؟
لماذا أبحت له قتل ثور الجنة ؟
و طلبت من الإلهة أنو المستحيل ؟
ألم تقتليه بيديك ؟
ألم تجدي له في الأرض مثيل ؟
ش ش ش ش … صهِ …
فاللوحة بعدها بعدان …
صراحة الألوان المثقفة …
تماثل في العين ..
تخاطر يدق ناقوس الأحلام …
و يداعبني منديلك البرتقالي .. شفافيته العذراء …
و ضوء القمر الأصفر ..
و خطوط بنفسجية تنحني …
و فستانك الأبيض الوردي …
لتتلامس وعمق اللوحة …
بمسير ثور أخضر …
هل تنظرين ؟
يأتي إليك بطوق من الياسمين …
يرمقكك بنظرة حب حاقدة …
و تلوذين به في نار الشوق …
فمن أين أتيت باللون الأخضر ؟
و لماذا طليت الثور بالأخضر ؟
ألم تقل لك الإلهة أنو أنه ثور الجنة ؟
يتخبط راكعاً …
في جسد رجل …
في هيئة رجل …
يتقدمك طلباً …
و ترمين به ضحية حب مهين …
و تتسائلين …
هل أنت تموز … أم أنتظر ؟
صدرك المغرور .. فينيقي الإلتفاف …
أذكره جيداً…
و أذكر أيضاً مزهرية الورد النبيذية …
و أوراق العوسج المغلي …
و تقاسيم جسدك الملتف على ذاته ..
المترنح …
أذكره جيداً …
لكنك لا تنظرين …