Skip to main content
Writings

عودة تموز.. احتفال لعروس لم يأت زوجها

By November 12, 2009April 5th, 2017No Comments

في كل صباح تفيق عشتار على  ضحك أطفالها ترتشف بعضاً من ألوان الربيع كوجبة صباحية و تذهب بها الكلمات إلى أكثر من خمسة آلاف سنة مضت تنتظر محبوبها .

 هكذا أدخلنا محمود صادق في ملحمة تموز . فعندما يأتي الربيع و تنتشي به الأزهار، يدق بابه رحيق يوم ثقافي، فتعتليه الرغبة في أن يفتح بابه و تخرج بمخيلته لتضاجع عبق الألوان . فيجد نفسه في خضمّ ثورة خطيّة . خطوط تحدثه عن فلسطين و أخرى تحدثه عن المجاعة في الصومال، فيكمل مسيره طلباً في لون جديد … يسبر غوز الذاكرة الحيّة التي ما انفك يداعبها كل صباح .. حتى تأخذه خطواته عميقاً في بصيرته إلى بابل .

 يضع بابل  وملاخمها في كيس ورقيّ يحتوي على ألوان ورديّة وبعضاً من الفراشي العتيقة و يذهب مضياً إلى مرسمة الشاعري . يقرأ بعضاً من تراث تموز .. من تراث بابل .. فتأخذه الكلمات إلى ملحمة جلجامش لترقص و أقلامه عشتار ..

 لوحة زيتية ذو مساحة لونية كبيرة . تنتشر بها صراحة اللون و نعومة الملمس . خطوط ثابتة تحكمها معايير الأشخاص المتمثلة في اللوحة ذاتها، فتارة يأخذ الخط مسير الشارع اللوني و كأنه يضع عين القارئ في مسرب ذو مرجعين .

يجتاح اللوحة اللون الحار، فتارةً يضفي اللون البرتقالي على عين المتلقي و أخرى يمزجها بعبق الألوان الباستيلية ليظر تناقض الألوان و ليحدث مفارقات رمزية بين عنصر و أخر . و يتجلى هذا بالجرأة اللونية ككما في الثور الذي أخذ لوناً أخضر و كأنه أراد أن يرمز لشيء أو أنه أدخل هذا الثور في مرتقى لوني لينشئ مفارقة جريئة بينه وبين باقي عناصر اللوحة .

 فأراد صادق هنا أن يلتزم بتعبيريته مع مراعاة وجوب الخروج عن النص في التمثيل الغيري للجسد كما فعل في جسد الامرأة الماثلة في يسار مقدمة اللوحة . فاستطاع بذلك أن يزج بين ما ترمقه العين من النظرة الاولى و بين موازنة عناصر اللوحة جميعها التي إذا لم تتزن شكلياً، أخذت الألوان الدور في موازنتها عاطفياً .

نستطيع أن نرى أيضاً مدى قدرة الفنان على إحداث بعد و عمق في اللوحة من المنتصف و هذا دليل على خروجه البسيط عن النص لكن بتصرّف . فهذا البعد لا يحدث ضجيجاً و لا يخلّ التوازن في اللوحة، لا بل يزيد من توازن العناصر و خصوصاً في الفجوة التي أحدثها في منتصف العمل .

أصر الفنان على تعبيرية الأشكال، فأخذ تارة كما في باقي أعماله العناصر الرئيسة محوراً تتمركز عليه ثقافة اللوحة . و تجلى هذا في العناصر الثلاثة الرئيسة ( الامرأة و النساء، ثم الرجل ثم الثور ) . وهذا ما تنطبق عليه ملحمة عشتار و انتظار لتموز . فالمرأة هي العنصر الرئيسي و النساء إلى جانبها و من ثم تموز التجريدي و من ثم الثور الذي يحمل طوقاً من الياسمين .

أما في النظر للحركة المتمثلة في كل عنصر في اللوحة فمن الجلي و الواضح إصراره على إحداث تناغم بين اللوحة كفكرة و العناصر كمضمون ، فنجد عشتار تقف وقفة العروس و تذهب في عمق اللوحة لنجد الراقصات تماماً كما في الرواية الملحمية ، و نجد أيضاًالمغنيات و المغنين و هذا كلّه يحدث الأثر الذي أراده الفنان و هو احتفال بعودة تموز .

يدخل عنوان اللوحة في سياق تاريخي و اسطوري ، فقد تعمد الفنان وضع العنوان في خلاصة اللوحة و التي هي عودة تموز . ففي ملحمة جلجامش الملحمة التاريخية التي تعد من أول الكتب التي كتبت في التاريخ و تعود لأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. ففي هذه الملحمة يتحدث البطل جلجامش عن عشتار في كثير من النصوص ، ومن النصوص المميزة عن عشتار في هذه الملحمة يتحدث جلجامش عن وقت أتت إليه عشتار تطلبه زوجاً و كانت قد ودّعت تموز ليذهب للعالم السفلي في النصف الثاني من حياته السنوية – أي سباته من العالم العلوي – فيرفض جلجامش البطل عرض عشتار رفضاً تاماً ، ويبرر هذا بنظرية العهر المقدس التي لطالما نادت به عشتار . فتغضب عشتار و تصر على أن يتزوجها و تستنكر رفضه فهي أم الوجود الأنسي و لا يحق لأحد أن يرفضها . فيعلق البطل جلجامش متهكماً : كيف أتزوجك و انت تنامين مع رجل آخر ستة أشهر في السنة و في الستة أشهر المتبقية تعاشرين نصف رجال الأرض؟ فأخذت عشتار تغضب أكثر فأكثر وراحت تنادي الآلهة الاعلى مرتبة منها و صعدت إلى السماء تطالب الآلهة أنو أن تجبر جلجامش على أن يتزوجها ، فترفض أنو أن تجبره و تصر عشتار مرة أخرى إلى ان تصل بها الأمور أن تطلب من الآلهة أنو مساعدة ثور الجنة . وهو ثور اسطوري ذكر في كثير من الحضارات و كان دوره أن يحقق القوة الكاسرة عندما يُطلب منه . فترفض الآلهة أنو أن تعطيه لعشتار ، فتذهب عشتار بتهديدها أنها إذا لم تعطها ثور الجنة ، ستوقظ كل موتى الأرض و تجعلهم يستهلكونها حتى يستنزفونها . ومن ثم لا يتبقى في الأرض شيء … حتى أخذت ثور الجنة و تنزل به للأرض لقتل البطل جلجامش انتقاماً لعشتار . فما يلبث ثور الجنة أن يبدأ القتال حتى يصرعه البطل جلجامش و صديقه و يمتثل صديق البطل جلجامش و هو يمسك بضلع الثور و يهم بأكله ، و يخاطب عشتار و يقول : لو أنني استطيع لمسك، صدقيني أن هذا ما كنت فاعل بك ..

لكن لماذا أراد الفنان ان يصوّر الواقعة في صورة فنية أجمل ظاهرياً و يضع عشتار في أجمل من تاريخها ، ولماذا أراد أن يجمل قبحها في قصة جلجامش ؟ لا بل تذهب أبعد من هذا و نتسائل عن سبب احضار الفنان لقصة عشتار في هذه اللوحة ..

في قراة بسيطة عن الفنان صادق ، نرى أنه متأثر جداً في حضارة مابين النهرين ، فمن المعروف عنه أنه حصل على درجة البكالوريس من بغداد عام 1970 و كان قد اشتف رخيق الحضارة من بلد كانت و مازالت واحدة من أفضل من نهل منها فنانوا الوطن العربي و ارتشفوا حضارتها في كل فنجان قهوة صباحي في بغداد ، فمن البديهي جداً أن يحضر لنا الفنان صادق ملحمة تاريخية في اطار بصري . وبالإضافة

إلى جميع ما ذكر ، معروف عن الفنان صادق أنه تبنى الأرض كلها موطناً لأعماله ، فلا يكترث لحدود صنعها إنسان ، ويصرّ على ان الأرض كلها قطعة فنية واحدة متعددة الأقاليم و له الحق في احضار أي اقليم منها في اطار لوحة فنية .

فعودة تموز و بعيداً عن الثقافة البابلية ، تعتبر ذو رموز غنية على مدى الحضارات جميعها . فقد أتى ذكر تموز في الحضارة الفينيقية في ( تموزيد ) و في الحضارة الأكادية و الآشورية في ( تموزين ) . وتعتبر تموز ذو دلالات شاعرية  يُأتى به كلما أرادت حضارة إشهار قصة حب أزلية بين إلهين . وعشتار في بابل هي ذاتها عشتروت في الفينيقية و هي أفروديت في الحضارة الاغريقية و مثيلاتها كثر . و كناية عن الحب الأزلي الذي يكنه لها تموز ، تقوم عشتار في منتصف كلّ سنة بلبس ثوب العروس و تخضر الراقصات و المغنين والعازفين من حولها ليزفوها من جديد للإله تموز لتعاشره طيلة المئة وثمانين يوماً القادمة و احتفالاً بعهد جديد من الخصوبة و الحب .

فهنا أراد الفنان صادق أن يحدث ارتجاجاً عاطفياً في عين المتلقي كناية عن بداية متجددة و عرس متجدد و حب و شعب متجدد . و هذا ما تستحضره ذاكرتنا دائماً على مضض . فجميعنا نحلم في حب يتجدد كل صباح و كل مساء كي تستمر الحياة و تنبض لتخلق أمل في الغد .

 يجوب اللوحة تناغماً ملحمياً .. فعند النظر في اللوحة بتمعن ، يدخل المتذوق في منظومة ثقافية و بعد لوني . فالعناصر تتناثر بانتظام و هذا ما أبدع به الفنان صادق على مضض، فالمراة (عشتار) تقف بالتواء أنثوي كناية على تمييزها عن بقية الفتيات في اللوحة و تلبس ثوبا ينحنيً والمعاني و كأنه ثوب عرس يملئ نصف اللوحة تقريباً و تخمل بيدها مزهرية ورد كناية على باقة الورود التي تحملها العروس يوم عرسها . و أيضاً استطاع الفنان تمييز عشتار بلون الثوب الأبيض الوردي و تطعيمه بطرحة برتقالية لإحداث توازن لوني بينها وبين بقية عناصر اللوحة من الفتيات . فبالنظر إلى عمق اللوحة نجد فتيات يرقصن لكن أشكالهن لم تكن بالإتقان ذاته عند عشتار و يعتبر هذا قدرة امتهان الفنان على إحداث مقارنة في اهتمام المتذوق في عناصر اللوحة .

و نجد أيضاً كيف استطاع الفنان التعبير عن الموسيقى في اللوحة ، فقد أضفى على العازفين ألوان فرحة و حارة ، لا بل أخذ في هذا أن يلوّن أيضاً الآلات الموسيقية كالكمان ، وبذلك أحدث الفنان موازنة موسيقية و لونية في آن واحد .

و بالنظر للثور ، نجد لوحة أخرى داخل اللوحة ، فثور الجنة لوّنه الفنان بالأخضر و هو أبعد  ما يكون عليه لون الثور ، لكنه عمد على وضع تفارقات بين الثور و ما يحمل بيده ، فطوق الياسمين ذو اللونين الأبيض و الأصفر يعتبر ظاهرياً خقيقياً ، لكن الثور و لاعتباراته الخرافية فهو شخصية خرافية و إحداث تغيرات عليه ، كاللون الأخضر ، تصر على اعطائه معايير خرافية ، وكأنه حقل أخضر نبتت فيه ورود الياسمين كناية عن التجدد و عن مصالحة الطبيعة للجنس البشري احتفاءاً بالتجدد و الخير والمحبة .

عودة تموز …. هل حقاً عاد تموز في هذه اللوحة .. أم أن تموز هو كل لون أباح به الفنان صادق لعين المتلقي ؟ فجميعنا ننتظر تموز أن يأتي .. كل صباح .. عله يأتي .

 ها هي ألوان صادق تنتشي من جديد .. تارة تتكلم الفارسية و تارة تعبث بكم من المسمارية ، و من صلب التاريخ يضيء شمعة تتجلى في لوحة ترسمكِ عروساً تنتظر حبيبها تموز … هل أباح لك التفكير … ؟

 عشتار …
عشتار ها أنت …
ترقصين بين المعابد …
فاليوم عرسك على تموز
هل حقاً تنتظرين تموز ؟

 ماذا أرى !
تماثيل و أعمدة .. رجال ونساء ..
رقص وأغاني .. ثور و ورود ..
و بينهم انت الأبيض تلبسين …
ثكلى العينين .. مبعثرة ..
مزوشية التفكير ..
تعابير هائمة و متوحشة ..
تصرخ الآهات ..
هل أنت تموز .. أم أنتظر ؟

 تقرأين في جسد اللوحة التاريخ …
لغات وقبائل .. طقوس وملاحم …
هل أباحت لك التفكير ؟
هل أباحت لك التمرد ؟
فثقافتك بالحب سادية ..
مائة وثمانون يوماً في فراش تموز …
و مثلها في منظومة العهر المقدس …
و مازالت عذريتك الأزلية تبكي …
من طهر جلجامش …
الذي ماانفك يتسائل دموعاً …
لماذا اقحمته في عذريتك المزيفة ؟
لماذا أبحت له قتل ثور الجنة ؟
و طلبت من الإلهة أنو المستحيل ؟
ألم تقتليه بيديك ؟
ألم تجدي له في الأرض مثيل ؟

ش ش ش ش … صهِ …
فاللوحة بعدها بعدان …
صراحة الألوان المثقفة …
تماثل في العين ..
تخاطر يدق ناقوس الأحلام …
و يداعبني منديلك البرتقالي .. شفافيته العذراء …
و ضوء القمر الأصفر ..
و خطوط بنفسجية تنحني …
و فستانك الأبيض الوردي …
لتتلامس وعمق اللوحة …
بمسير ثور أخضر …
هل تنظرين ؟

يأتي إليك بطوق من الياسمين …
يرمقكك بنظرة حب حاقدة …
و تلوذين به في نار الشوق …
فمن أين أتيت باللون الأخضر ؟
و لماذا طليت الثور بالأخضر ؟
ألم تقل لك الإلهة أنو أنه ثور الجنة ؟

 يتخبط راكعاً …
في جسد رجل …
في هيئة رجل …
يتقدمك طلباً …
و ترمين به ضحية حب مهين …
و تتسائلين …
هل أنت تموز … أم أنتظر ؟

 صدرك المغرور .. فينيقي الإلتفاف …
أذكره جيداً…
و أذكر أيضاً مزهرية الورد النبيذية …
و أوراق العوسج المغلي …
و تقاسيم جسدك الملتف على ذاته ..
المترنح …
أذكره جيداً …
لكنك لا تنظرين …

nedaa.elias[at]gmail.com